تؤمّن شجرة الزيتون، كما هو معلوم، الغذاء والدواء والطاقة والنظافة (صناعة الصابون واستخدامات تجميلية أخرى) والفيء وتحمي البيئة… وتعمّر مئات وآلاف السنين. وتعدّ هذه الشجرة الأكثر انتشاراً على الأراضي اللبنانية وباعتبارها المكوّن الأساسي للأمن الغذائي في لبنان.
هذا العام، أتى شحّ المطر وانقطاعه المبكر مع الحرارة الآخذة في الارتفاع، ازدهاراً كبيراً وحملاً وفيراً من الحبات، وشحّاً في إنتاج الزيت، مع تراجع كميات الرطوبة التي نالتها الشجرات من جذورها العميقة في التربة. لكنّ الكروم بقيت عصيّة على الآفات على عكس السنوات الأخيرة. وكأنّ يد الطبيعة الخفيّة، ترمّم ما هدّمه الجشع والجهل. قصة الزيتون، فصل من رواية هويّة ممزّقة.
بوتيرة بطيئة، انطلق موسم قطاف الزيتون في الجنوب، إذ انتظر العدد الأكبر من أصحاب أشجار الزيتون «الشتوة الأولى» لريّ أشجارهم بعدما عانت من انحباس المطر في شهر نيسان، ومن انقطاع مياه الدولة طيلة فصل الصيف وحتى اليوم. لكن رغم ذلك فـ»الموسم مقبول، وأشجار الزيتون ممتلئة بالحبوب» تقول فاطمة قشمر، ابنة بلدة ربّ ثلاثين، التي قرّرت قطاف زيتون أشجارها باكراً، بعدما بدأت الحبوب بالتساقط أرضاً بسبب مرض «عين الطاووس» الذي أصيب به عدد كبير من الأشجار.
عين الطاووس
ليست المرة الأولى التي يجتاح فيها المرض أشجار الزيتون، لكن بحسب قشمر «هذه السنة لم نتمكن من محاربته لأن وزارة الزراعة غابت بشكل كلّي وغابت معها أدوية مكافحة الأمراض التي تصيب الزيتون، أما المبيدات المتوفرة في الأسواق فتباع بالعملة الصعبة ولا نقدر على شرائها». لم تستعن قشمر وغيرها من أبناء المنطقة، بالعمّال لقطاف أشجار الزيتون، «أجرة العمال باتت مرتفعة أيضاً، معظمهم يطالبون بـ500 ألف ليرة يومياً».
علي بو طعام، بدأ قطاف زيتوناته أيضاً في بلدة الطيبة المجاورة، وهو يشير إلى «مشكلة تساقط حبات الزيتون بكثافة، أما إنتاجها من الزيت فهو أدنى بكثير من السنوات الماضية»، محيلاً السبب إلى «العطش وانتشار مرض عين الطاووس». يستدلّ بو طعام على كلامه بأن «مدّ الزيتون أنتج حوالي كيلو ونصف كيلو من الزيت، بينما كان ينتج سابقا حوالي 3 كيلوغرامات».
يؤكد سليم بزي، صاحب معصرة حديثة للزيتون في بنت جبيل، أنّ «معظم المزارعين وأصحاب أشجار الزيتون يمتنعون اليوم عن استئجار العمال ويقطفونها بأنفسهم. وفيما حدّدت البلديات البدل اليومي للعامل في قطاف الزيتون بـ400 ألف ليرة، فرض العمال تسعيرة أعلى». أما عن أجرة عصر الزيتون في المعاصر «فهي تشكل 10% من الإنتاج، لأنّ المعاصر تحتاج إلى تشغيل مولدات الكهرباء فترات طويلة»، معتبراً أن «كلفة الغلاء يتحمّلها المزارع وأصحاب المعاصر معاً، حتى إن ثمن غالون الزيت الفارغ ارتفع ثمنه من 4000 ليرة إلى 120 ألف ليرة، لذلك وصل ثمن تنكة زيت الزيتون إلى 120 دولاراً أميركياً».
من جهتهم، يخشى الكورانيون بأن تنزل منطقتهم عن عرش الزيتون اللبناني بسبب ارتفاع كلفة قطافه وإنتاج زيته. فقد تحوّلت أجور العمال إلى بورصة ترتفع يومياً مع ارتفاع حاجة أصحاب الحقول إليهم، فيما ارتبطت كلفة العصر والكبس بالدولار... ربطاً بأسعار المازوت.
عدد محدود من مزارعي الزيتون افتتح موسم القطاف. هم ممن اضطروا إلى تحمّل الأجور الباهظة لـ«يومية» العامل. في المقابل، تريّث كثر في القطاف على أمل توحيد التسعيرة التزاماً بالأجر الذي حدّده تجمّع الهيئات الممثلة لقطاع الزيتون في لبنان الشمالي، والذي بلغ الأجر 170 ألف ليرة لبنانية للعامل و130 ألفاً للعاملة، لغير المقيمين لدى أصحاب العمل، فيما ينقص منه 30 ألف ليرة للمقيمين. لكن أحداً لم يلتزم بهذه التسعيرة. من جهتها، حاولت بعض البلديات في القضاء تحديد تسعيرة خاصة للعمال ضمن نطاقها العقاري، كما فعل رئيس بلدية بتعبورة طوني المقدسي الذي حدّد أجر يومية العامل بـ 200 ألف ليرة والعاملة بـ 175 ألف ليرة «بعد مشاورات مع المالكين وأصحاب الأراضي و اتحاد بلديات الكورة».
«بعض كبار التجار يخلطون زيت الزيتون المتبقي من الموسم الماضي بزيت مستورد من الدول المجاورة لبيعه بسعر أقلّ، أو خلط الزيت القديم بالجديد. الناس تبحث عن الزيت الأرخص وليس الأجود كما في السابق».
فمن يضبط الفوضى والكلّ يسعّر «على ذوقه»؟. مدير الثروة النباتية في وزارة الزراعة محمد أبو زيد لفت إلى أن الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار وخفض ميزانيات الوزارات، كلّها عوامل أدّت إلى تراجع إمكانات الوزارة لدعم المزارعين. «لم نستطع القيام بمناقصات لشراء فرّاطات آلية وتوزيعها على المزارعين والتعاونيات الزراعية». في تلك الحلقة المتصلة بين التكلفة وسعر الزيت، لا تملك الوزارة تفاصيل حول التسعيرة المرتبطة بتكاليف الإنتاج وطلب السوق.
«زيتون نوح» في بشعله... مهد الزيتون في المتوسّط
يذكر سفر تكوين في العهد القديم من الكتاب المقدّس أن النبيّ نوح أطلق حمامةً لتعود إليه بدليل حسيّ يبيّن ما إذا كان الطوفان قد بدأ بالانحسار، وعادت الحمامة حاملةً غصن زيتون كدلالة على أن اليابسة عادت للظهور تدريجياً. إذا اخترنا تصديق أحداث الكتاب المقدّس، فإن الحمامة تكون قد التقطت الغصن من أعالي قضاء البترون، ومن بلدة بشعله تحديداً، التي تحتضن وفقاً لأحدث المعطيات العلميّة أعلى شجر زيتون في العالم وربما الأقدم.
يُعرف زيتون بشعله الأثري بـ«زيتون نوح»، وهو يتكوّن من 11 شجرة لا تزال صامدة رغم مرور آلاف السنوات. ويشير رئيس بلدية بشعله رشيد جعجع إلى أن «زيتونات بشعله خضعت عام 2018 لاختبارات الكاربون 14 في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأميركية، وتبيّن أن عمرها 2050 سنة، وتُعتبر بالتالي أقدم شجر زيتون في العالم». ويلفت إلى أن «هذه الزيتونات هي الأعلى في العالم أيضاً، لكونها ترتفع على علو 1220 متراً عن سطح البحر، فيما الزيتون وكما هو معلوم لا يعيش على ارتفاع أكثر من 800 إلى 900 متر عن سطح البحر».
زيت زيتون Darmmess في الصدارة عالمياً
إلى ذلك نجحت روز بشارة بيريني، وخلال عام واحد فقط، في إيصال زيت الزيتون اللبناني إلى العالميّة، لتحصد علامتها التجاريّة Darmmess أرفع الجوائز على مستوى العالم في مسابقات متعدّدة وفي مواجهة مئات العلامات التجاريّة.
وُلدت روز وترعرعت بين الزيتون في قرية دير ميماس الجنوبية التي تزيّنها حوالى 150 ألف شجرة زيتون، والتي يُعرف زيت زيتونها بـBordeaux زيت الزيتون اللبناني، نسبةً إلى المدينة الفرنسية المشهورة بنبيذها الفاخر. أدركت روز مبكراً الإمكانات الهائلة التي تختزنها قريتها الصغيرة، وأن زيتونها قادر على التألق عالمياً فيما لو جرى استثماره بشكل جيد ووفق طرق حديثة تسمح باستخراج أفضل ما فيه.
(الأخبار)