مشاهد الأضداد ليست جديدة في بلد التناقضات لبنان الذي طالما إعتبر مواطنوه أن إختلافاتهم وتنوعهم تشكل فرادة ما، ولطالما رددوا بفخر: "هيدا لبنان". أما المستجد، فوجود مظاهر الرفاهية وإزدحام المطاعم والنوادي الليلية والمنتجعات، في الوقت الذي تتحدث فيه التقارير عن أن أكثر من 70 في المائة من سكان لبنان يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.
في منطقة فردان في بيروت، يعج المجمع التجاري بالزائرين مساءً، بعضهم يمشي بأيدٍ خاوية والبعض الآخر يلوح بأكياس لملابس وأحذية وهدايا إشتراها للتو. وعلى بعد أيام من حلول عيد الميلاد، ومع وصول سعر صرف الدولار إلى 27 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد، تجول أعداد كبيرة من الناس في الأسواق إلا أن القليل منهم يقوم بالتبضع.
وأنتجت الأزمة الاقتصادية طبقة "الفقراء الجدد" وسحقت الطبقة المتوسطة لتبرز مكانها طبقة جديدة تعرف بـ"طبقة الدولار"، أي الذين يتقاضون رواتبهم أو تصلهم حوالات خارجية بالعملة الصعبة. في المراكز التجارية يتجول الميسورون بمقتنياتهم الجديدة، كما يتجول الفقراء الجدد، وهم المنتمون إلى الطبقة المتوسطة سابقاً، بأيدٍ خالية. الطبقتان إعتادتا في الماضي القريب التبضع من المجمع التجاري نفسه، أما اليوم ومع معاناة أكثر من 82 في المائة من الفقر المتعدد الأبعاد بحسب دراسة أعدتها "الإسكوا"، أصبح التبضع محصوراً بطبقتين: الميسورين وحاملي الدولار.
وينسحب الترف على أماكن السهر، حيث تصل أسعار تذاكر الدخول إلى المليوني ليرة لبنانية (نحو 80 دولاراً). ورغم ذلك، تعج تلك الأماكن بروادها. يواصل هؤلاء حياتهم بالطريقة المعتادة، ولم ترخِ الأزمة بأثقالها على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. هي الوجوه نفسها تقريباً، تنتقل من مطعم إلى آخر، ومن منتجع إلى آخر.
على طاولة "VIP" في أحد النوادي الليلة يمضي راجي مع أصدقائه أوقاتاً ممتعة. لا تتوقف الطلبات من النادل الذي يحرص على تلبية حاجات الزبائن. فالطاولة التي تضم ستة أشخاص كلفت راجي، وهو ابن مغترب لبناني، وأصدقاءه 20 مليون ليرة لبنانية "يعني 700 دولار، أي أقل كلفة من السهرات على أيام سعر صرف الـ1500 ليرة لبنانية"، حسب ما يقول لـ"الشرق الأوسط".
ويضيف: "نحن الميسورين كما يسمينا البعض، لم نفتعل الأزمة الإقتصادية، ولم نجر لبنان إلى الهاوية، على العكس نحن الفئة التي تبقي قطاع المطاعم والمنتجعات مستمراً إلى جانب السياح والمغتربين... لسنا نحن من تسبب بفقر الناس ولا من سلبهم أدنى حقوقهم الحياتية. وفي هذا البلد اللاطبيعي لا بد من أن نسرق لحظات الفرح... لا تلوموا الناس على يسرها بل لوموا من أفقر أكثر من نصف الشعب".
وللمفارقة يتناقض هذا المشهد مع آخر في الحي الجنوبي من العاصمة. في جولة داخل أزقة منطقة صبرا حيث توجد متاجر عشوائية وبسطات لبيع مختلف أنواع السلع والأطعمة، ترتسم ملامح الفقر على وجوه اللبنانيين. ويتنقل المارة وسط مستنقعات من المياه في الشتاء، هي خليط من مياه الشتاء ومياه الصرف الصحي.
أمام إحدى البسطات يسأل رجل البائع: "بكم اللوبية؟" وهو يمد يده ليتفحصها، "الكيلو بـ15 ألف ليرة" يجيبه الأخير، فيسحب الرجل يده. يسأل مستغرباً: "15 ألفاً!"، ويكمل طريقه وهو يتمتم ويشتم الدولار والتجار وجشعهم، ونفسه.
الرجل، الذي يوحي رد فعله بوضعه الاجتماعي، يخبر "الشرق الأوسط" أنه لا يتقاضى راتباً. هو "ناطور" في أحد مباني منطقة الطريق الجديدة البيروتية القريبة، ويعمل مقابل السكن في غرفة يقطنها مع عائلته ويمسح ويكنس أدراج المباني المجاورة مقابل القليل من المال. بالنسبة له، لا فرق إن كان هذا المبلغ يساوي 10 دولارات على سعر الصرف القديم (1500 ليرة لبنانية) أو يعادل بضعة سنتات على سعر صرف الدولار اليوم (27 ألف ليرة لبنانية). أصبحت وجبة اللوبية بزيت التي تعتبر من الأكلات الاقتصادية، تكلف مكوناتها أكثر من 70 ألف ليرة، ما لا طاقة له على إعدادها.
وعلى بسطة أخرى يبيع صاحبها الأحذية، قطعة من الكارتون كتب عليها "الحذاء بـ70 ألفاً"، تمر امرأة ممسكة بيدي ولدين إلى جانبها، تناديه عن بعد بضعة أمتار سائلة: "الاثنين بـ100 (ألف ليرة لبنانية)؟"، "120 ألف (ليرة لبنانية) يجيب"، فتصر، وبعد أخذ ورد يوافق البائع. "استفتاحية" يقول للسيدة، فتقسم أنها لا تحوي في محفظتها إلا 100 ألف ليرة لبنانية لشراء أحذية شتوية لولديها "ليذهبا بها إلى المدرسة"، حسب ما تخبر "الشرق الأوسط".